إضاءة / هل الشعر قلق؟
الشعر ألم وغموض ، ألم لأنّي أشعر بعطب دائم في قلبي ، بوجع ما في شكل قلق مدمّـر ، فهل الشعر قلـــــق ؟.
إذن ثمة في داخلي بعد انتحاريّ وعدميّ بمعنى ما .ألم لا يشفى حتّى أني لا أفرّق بين اللذة والألم .فكأن الألم في اللذة واللذة في الألم وكأنّ كليهما في كأس من الشّعر .حين أصاب بطلقة وردة وببهجة إمراة أو بسحر مشهــــــد طبيعيّ ، بقطعة موسيقية فاتنة ، تنتابني طعنة خنجر وألم بطعم الحزن والغموض والعدم واللاّجدوى . أتالـّم بعد أن أنهي كتابة القصيدة لا سيّما إذا كانت تلك القصيدة استثنائية.هذا الوجع الذي يسكن قلبي يسكن أيضا جـــــــلّ قصائدي . الشّعر ألم إذن مكلّل بالغموض.غموض : أعبده ، لأني أميل إلى الظلمة والنـّور الشفـّاف ، أعشــــــق المساء وأفنى لأجل غموضه الخافت ، وأصاب بدهشة ، بنشوة ، و[بألم قاس ، بشتول الحنين العاصف الممتزج بالفرح والحزن .الغموض هو هذا الوقوع سهوا أو عمدا بين حدّي الحزن والفرح ، تماما فالشعر هو أيضا الوقوع بين الوضوح والغموض وهو التـّيه في كون الأوهام والأحلام .وحدهم الشعراء يحلمون ليلا ، نهارا ، لذا فالشّعر يتأسّس على الحلم الرقراق : أحلم غالبا أنني وسط غابات ثلجية على عربة يجرّها حصانان في مساء ما ، في مكان ما، وأنا أشقّ الطرق وأضرب في العتمة والتـّيه ، ويتـّسع حلمي أكثر حين أكون في حالة استماع إلى الموسيقى الصامتة فأشعر أنني وسط غابات عذراء تحت سماء خفيضة ، سماء بلا شمس حيث السّكون الأبديّ وكأنـّني أستقـرئ الغيب والعناصر والأشياء وهي تتشكـّل لتوّها ، أحنّ إلى الأشياء العذراء التي لم يمر الزمن عليها، وأحلم ....
أحلم بأضوية وأسحار وعطور وأصداء تتزاحم كسيمفونية من البوح والفرح والوجع ، تدعوني كــي أشهــــــد ،
والشّعر عندي شهادة ما .ومع إنني هادئ، وصبور لكن تحت مائي الهادئ الذي يلوح نقيـّا ترقد براكين من التمرّد والثــــــورة، أمـــقت الاطمئنان والمطمئنين وأعشق الشعراء الملعونين والمتمرّدين، أعشق بخاصة الشعراء اليتامى أي الذيــــــــــن خلـّفوا كتابا وحدا . وأعجب بأرتور رامبو، ببودلير بأندري بروتون، وبول فاليري .. كما أعشق الشعـــــــــراء اليونانيين والأسبان لا سيـّما ألبرتي، وماتشادو، رامون خيمينيث، لوركا ،ونيرودا، ريتسوس ، وبورخــــــيس وخاصة الشاعر العظيم قسطنتين كافافيس...بهؤلاء جميعا افتتنت ولهم قرأت وانتفضت ، ولم أتلفت إلى الوراء ، حيث رسخت عندي قناعة بأنّ ما قاله أمثال هؤلاء منذ عقود طويلة ، نكتشفه نحن الآن ونعيد اجتراره برداءة ، وأدركت إذن ألاّ فائدة من قرقعة الطبول ، من حمحمة خيول الأسلاف ورنين القوافي وضجـّــــــــــة| الأوزان .
إنـّنا بحاجة إلى الإنصات بالقلب والعقل عوض الإنصات بالأذن وأننا أيضا بحاجة إلى القول العميق، إلى القول الحرّ ، المتحرّر والهادئ ، فحاولت أن أقطع مع الغنائية والبلاغة الميـّتة ، البلاغة الزائفة ،لكي أن نكتب تجربتنا بصدق وإحساس وفنـّية ، وعمق وتميـّز، ولذلك أرى إلى النصّ الشعريّ |ككون من الاحتمالات مفتوح علـــــى التجريب ، على المعادلات والتركيبات اللغوية المؤلمة والمتوحّشة والمربكة .لا أعتقد في نصّ يقوم علــــــــى الفراغ . إنه يتأسّس على الإضافة وعلى أصداء وعطور النّصوص الأخرى ، وعلى القراءة بخاصــــة فــمن لا يقرأ أحرى به أن يصمت . فالقراءة تبدع النص وتخصّبه وتثريه ، والقراءة تبدع الرؤية والإبداع بلا رؤيــــــــة كالسّـير في الظلام.
لذلك فأنا مسكون بأسئلة الشّعر وأسئلة الوجود، مسكون بالبحث عن معادلات الكينونة الشّعرية: ما بيـــــــــــــن
الذات والموضوع ، ما بين الإبداع والتلقـّي ، ما بين التراث والحداثة ، ما بين النثريّ والشعريّ . هذه الأسئلــة.
تقلقني دوما ، ويظلّ المنجز متخلـّ|فا عن المأمول ، والوعي سابقا على الإبداع .
هم يقرؤون القصيدة : وراءً .. وراءً.. وأنا أقرأ القصيدة : أمامًا ..أماماً، أمامًا . هم يسبحون في أنهار الوضوح
واليقين والمعلوم، أمّـا أنا .. فأنا أسبح في بحار العتمة والشـكّ والمجهول.