عن رفائيل ألبرتي وماجدة إيزانوس وقصر السلطان الأسود
عبد الرحيم الخصار
24/04/2007
كانت السيارة تخترق غابة الأوكالبتوس عبر ممر ضيق خلفه الفرنسيون منذ سنوات الحماية، عبر منخفض هضبي ستتراءي لك قصبة المولي اسماعيل المنسية هناك بين مدينتي سطات والجديدة، أمام هذا الإهمال الكبير لملحمة حضارية كنا نقف مذهولين وصامتين فيما كان التاريخ يتحدث نيابة عنا، ثمة جلال يلف القصر.
بدا من المؤسف حقا أن تتعامل الحكومات العربية مع التاريخ بهذا النكران، نحن لا نقدر شيئا علي الإطلاق ونحتفل دائما بالعابر والحسي والرديء، لذلك لا نعرف كيف نعيش هاته الحياة، وبالتالي لا نتذوق طعمها، ربما لهذا السبب كان جبران يقول: الحياة رواية مشبعة بالإنجازات الجميلة التي لا حدود لها، بيد ان الناس رقائق شفافة وأرواحهم نحيلة وكلامهم هزيل .
وجدنا أنفسنا بالفعل في القرن الثامن عشر حتي أن أقدامنا كانت تحس بوقع حوافر أفراس المولي اسماعيل وهي تجول ضيعة الليمون، المدخل الرئيسي للقصبة كتب عليه تاريخ البناء ـ 1710 بديباجة دينية كعادة الملوك، يقول العجوز الذي يجلس وحيدا بين عكازتين: لقد بني الملك 85 قصبة بالمغرب، ثم يحكي عن تاريخه وأمجاده وكيف لقّبه الشعب بالسلطان الأسود مع أنه أبيض البشرة، وحين يطمئن إلينا يهمس: لقد كان ملكا صعبا . تلك الصعوبة سنلمسها فعلا ونحن ننزل تحت الأرض لنجوس غرف السجن، ولأنني أكره السجون ولا أؤمن بفكرتها مهما كان الداعي، فقد خرجت لأمشي فوق الأسوار، الأسوار العالية هنا والنهر الشاسع الذي يحيط القصبة بحنانه والبساتين التي تغرد فيها عصافير لم نرها، كل ذلك كان يحيلنا علي عصر آخر، العصر الأندلسي حيث كان العرب يمرحون في خيرات الآخر غير آبهين بمعاول التاريخ، ربما رائحة الأندلس هنا هي التي جعلتنا نستعيد قصائد بحار اليابسة رفائيل ألبرتي الذي قال عنه بابلو نيرودا: رفائيل ألبرتي بريق الشعر في اللغة الاسبانية، إن شعره كما الوردة حمراء ومتفتحة في الشتاء بمعجزة ، وقال عنه خيراردو دييغو أحد شعراء جيل الـ27 : إنه شاعر الجد وشاعر السخرية .
تدحرجنا نحن الأربعة عبر المنخفض الحاد للهضبة لنجلس تحت أشجار الليمون وليقرأ علينا صديقنا حميد قصيدة ألبرتي ce va la gente ـ الرجال ذهبوا من هنا ـ:
Ce va la gente; Es tos peueblos
Un dia estaran vacios ?
فيما كان صديقنا عبد الرحيم يقرأ القصيدة ذاتها مترجمة إلي الفرنسية:
Les gens s en vont ; ces villages
Seront-ils dژpeuplژs un jour ?
بينما كنت أحاول أن أقرأ نص ألبرتي بلغة المولي اسماعيل:
الرجال ذهبوا من هنا، هاته القري
هل ستغدو يوما ما فارغة؟
لقد كانت فارغة بالفعل، من هنا عبر الملك وهذه أبراج الحراسة حيث كان يقف الجنود بالليل والنهار، وهناك المسجد والضريح، هنالك كان يدب الخدم والحريم، لكن الذي وجدناه حينها كان يشبه ما وجده غارسيا ماركيز في روايته خريف البطريرك ، بعد كل هذا المجد لم نجد في القصر سوي روث البهائم وأزبال القرويين، لعله مكر التاريخ.
يقف رفائيل ألبرتي علي هذا الخراب ليقرأ قصيدته الفردوس المفقود :
أين الفردوس أيها الظل؟
مدن دونما جواب
أنهار دون كلام
من دون صدي
بحار خرساء
لا أحد يعلم ذلك
رجال ثابتون
علي حافة القبور الساكنة
...
أيها الملاك الميت، استفق
أين أنت؟
أضيء العودة بشعاعك??
وفيما كنا نستعيد التاريخ كان صوت بحار اليابسة يملأ المكان محاولا استعادة ما هو أهم عبر قصيدته استعادات الحب :
أسبح في الظلمة محتضرا
مصغيا لحشرجة تخف كرفرفة طائر قتيل
...
تعلمت الاستناد إلي كتفيك
والنزول عبر انهار ومنحدرات
تعلمت الاشتباك بالأغصان الممتدة
وتعلمت ان اجعل من النوم موتي الأكثر عذوبة??
لم يكن ألبرتي وحده معنا، بل إن طيف الرومانية ماجدة إيزانوس قد مرق أمامنا، وكانت كلماتها القديمة ترج الأشجار من حولنا:
مترعا الغرفة والقلب معا
يدخل الرجل ادما من الثلج والريح
صوته الأجش يربك لهيب النار.
لقد أحسسنا بهم جميعا يصلون إلينا عابرين النهر وغابة الأوكالبتوس وجالسين أيضا علي مقربة من الأطلال وتحت أشجار الليمون، كانت أصواتهم فعلا تربك لهيب النار، لم يكونوا جنود المولي اسماعيل، بل كانوا جنود مولي آخر أكثر ديمومة، أقصد الشعر، كأنما خرجوا من الكتاب الذي كان بين أيدينا تباعا ليصغوا إلينا ونحن نقرأ قصائدهم في هذا المكان الرهيب: بيني أندرسون من الدانمارك، لويس أراغون وبول إيلوار من فرنسا، موريس كريم من بلجيكا، بوكاريلان من فنلندا، أنطونيو ماشادو وغابرييلا ميلايا من اسبانيا، ستيفان جورج من ألمانيا، بوريس باسترناك من روسيا، فرناندو بيسوا من البرتغال، راينر ماريا ريلكه وجورج تراكل من النمسا.
في طريق العودة كانت أم كلثوم تغني رائعة رامي والسنباطي: هلت ليالي القمر، لم أر القمر تلك الليلة، لكني رأيت في المنام وجه ماجدة إيزانوس.
شاعر من المغرب
من مترجمات للشاعر المغربي خالد الريسوني.
عن القدس العربي.