الريح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
الريح

كتابات متمردة بجميع الالوان
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 محمود درويش: في حضرة الغيابv

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حمدي علي الدين

حمدي علي الدين


عدد الرسائل : 31
تاريخ التسجيل : 08/04/2007

محمود درويش: في حضرة الغيابv Empty
مُساهمةموضوع: محمود درويش: في حضرة الغيابv   محمود درويش: في حضرة الغيابv Icon_minitimeالسبت أبريل 14, 2007 11:57 pm


ظلام ظلام ظلام.. نجاة اللون من التأويل، وخيال يهب الأعشى ما فاته من فروق الإملاء ومساواة ترجح كفة الخطأ.. لو خلا الليل منا لعاد صيادو الأشباح إلى ثكناتهم خائبين.. ولو خلا الليل منهم لعدنا إلى بيوتنا سالمين.


الأشجار سوداء عمياء بلا أسماء وبلا ظلال.. وفي كل حجر سرّ ما.. كأن الموت الذي لم تره من قبل ينصب فخاخه بدهاء تامّ السرية.. فماذا تفعل في هذا الخلاء الكامل لو نقصت هذه القافلة الصغيرة؟ ومن أية جهة تنجو، وماذا تفعل بنجاتك؟ إلى أين تأخذها وأنت لا تعرف أي طريق؟

لم تفكر بموتك أنت.. فما زلت صغيراً على هذه التجربة.. إذ لم تدرك بعد أن بمقدور الصغار أيضاً أن يموتوا.. لكن كيف تمضي وحيداً إلى حياة لا تعرفها ولا تعرف مكانها؟ فأبكاك احتمال يهيل عليك بلا رأفة .. سماء ثقيلة الوطأة.. ويروي لك، بلا رحمة.. نهاية قصة عن ضياع أبدي في ليل وحشي مطبق على بغلتين وطريق صخري وسمسار حنين يقود خمسة عائدين إلى خطاهم المعاكسة

وستروي إلى لا أحد واضح الملامح: لم يكن لنا من غدو، وقتئذ، إلا الضوء والصوت.. ولم يكن لنا، ليلتئذ، من حليف سوى الحظ ينهرك صوت الخوف الخفيض: لا تسعل أيها الولد، ففي السعال دليل الموت إلى مقصده..

ولا تشعل عود الثقاب، أيها الأب، فان في بصيص نارك الصغيرة إغواء لنار البنادق.



و خيّل لك أن الليل هذا هو خباء الموت الواسع وأنك تمشي أو تزحف أو تقفز كالجندب في برية الذئاب الخالية من المارة.. وخيّل لك أن الضوء القادم من نجمة شاردة، أو من سيارة بعيدة، هو أحد الأدلاء السريين لصاحب هذه البرية.. وعليك إذا لاح الضوء من بعيد أن تتخذ هيئة شجرة واطئة أو صخرة صغيرة، وأن تحبس أنفاسك لئلا يسمعك الضوء الواشي



وستروي لي عندما أتقن التدوين، أو ستروي للا أحد كيف عثرت هناك، في ذلك الليل، على قرون استشعار جاهزة لالتقاط الرسائل البعيدة وكيف تدربت على الاقامة في المغامرة، وكيف اكتويت بجمرة الثنائيات وجاهدت في مكابدة الضد للضد، وتجنبت تعريف العكس بالعكس، فليس كل عكس لما هو خطأ صواباً دائماً.. وليس الوطن هو النهار، دائماً.. وليس المنفى هو الليل...

ظلام يوحد العناصر في كهف الوجود الخالي من الصور.. يطفح المجهول المحمول على عواء الذئاب وعلى هسيس العشب الدامي وتمشي خطوة على خواطر سوداء، وعلى صخرة ليل خطوة.. وأنت تسأل في سرك عما يجعل العتمة صلبة، وعما يجعل الحياة صعبة.. وتحن إلى مطر في الجنوب إلى مطر يذيب هذا الحبر الكوني الهائل وتقول: لو هطل المطر علينا في هذا الليل لذاب الظلام ورأينا خطانا والطريق، وقادتنا رائحة المطر إلى الشجر الذي شب في الغياب ودخلت أغصانه العالية إلى الغرف.



لكن همساً مالحاً يأمرك بأن تنبطح على الأرض.. هو الضبع - يقولون لك وهم يشيرون إلى ضوء سيارة من بعيد، ولا يأذنون لك بأن تسأل: هل يقود الضبع سيارة؟ لم تعرف المجاز بعد، فلم تعرف أن الضبع هو "حرس الحدود" إذ ظنوا أن الضبع لمن هو في سنك أرحم.. فهو لا يحمل بندقية ولا يعرف المحاججة.. ويكفيك، لتنجو منه أن تخفي خوفك في جيبك، وتتظاهر بالمشية اللامبالية.. يبتعد الضوء، وتزدرد الخوف، وتمشي مع بغلتين، وعائلة، وسمسار حنين على هدي الظلام



وأنا الراوي، لا أنت، أذكّرك الآن بمنادي قرية كان يقف على سطح بيت ويصرخ: جاء الضبع.. فيهرول عشرات من أمثالك إلى كهف القرية، إلى أن يعود الجنود من حملة التفتيش عمن عادوا إلى بلدهم"متسللين".. تلك القرية المنحوتة في سفح جبل ذات بيوت من جدران ثلاثة.. أما الرابع فهو ظهر الجبل.. بيوت لو نظرت إليها من تحت، من كرم الزيتون، لرأيت لوحة عشوائية رسمها فنان أعمى على عجل، صخرة على صخرة.. ونسي أن يرش عليها شيئاً من نعمة اللون، فقد كان خائفاً من أن يرى، فجأة، ما صنعت يداه.. أما النوافذ فإنها تطل على جهة واحدة: جهة الضبع! هناك، عرفت من آثار النكبة المدمرة ما سيدفعك إلى كراهية النصف الثاني من الطفولة.. فإن كنزة صوف واحدة، منتهية الصلاحية، لا تكفي لعقد صداقة مع الشتاء.. ستبحث عن الدفء في الرواية، وستهرب مما أنت فيه إلى عالم متخيل مكتوب بحبر على ورق.. أما الأغاني، فلم تسمعها الا من راديو الجيران..



وأما الأحلام فلن تجد متسعاً لها في بيت طيني، مبني على عجل كقن دجاج، يحشر فيه سبعة حالمين، لا أحد منهم ينادي الآخر باسمه منذ صار الاسم رقماً.. الكلام إشارات يابسة تتبادلونها في الضرورات القصوى، كأن يغمى عليك من سوء التغذية، فتداوى بزيت السمك... هبة العالم المتمدن لمن اخرجوا من ديارهم.. تشربه مكرهاً كما تكره الألم على إخفاء صوته في ادعاء الرضا.



تتذكر مذاق العسل الجارح الذي كان جدك يرغمك على تناوله فتأبى وتهرب من مشهد جدتك التي تضع المنخل على وجهها لتتقي عقصات النحل وتقطف الشهد بيد جريئة.. كل شيء هنا برهان على الخسارة والنقصان.. كل شيء هنا مقارنة موجعة مع ما كان هنا. وما يجرحك أكثر هو ان "هُناك" قريبة من "هنا"جارة ممنوعة من الزيارة ترى إلى حياتك التي يتابعها مهاجرون من اليمن دون ان تتدخل في ما يفعلون بها، فهم أصحاب الحق الإلهي وأنت الطارئ اللاجئ..



وحين تقول لأهلك: لم أذق في حياتي طعماً أسوأ من زيت السمك.. يسخر منك الكبار: ألك حياة يا ابن السابعة..

ألك ذكريات؟ تقول: نعم.. وهذا هو الفارق. ولد الماضي فجأة كالفطر.. صار لك ماض تراه بعيداً.. وبعيد هو البيت الذي يسكنه وحيداً ولد الماضي من الغياب.. ويناديك الماضي بكل ما ملكت يداه من أزهار الصبار الصفراء على طريق يصعد فوق التلال، ومن رائحة الحنين الشبيهة برائحة البلوط المشوي في الموقد، ومن عباءة جدك البنية كالتبغ الذي بلله الماء، الخفاقة كصوت صراع ودي بين الحكمة والعبث.. ولد الماضي .. ومن خوفك من الغد ولد الماضي كاملاً جاهزاً لخطف العروس على حصان الحكاية.. من كل ما أنت فيه، ومن كل ما فيك من بؤس الحاضر الجائع إلى تعريف الهوية.. ولد الماضي..



وكما لو كنت تهذي: البعيد هو السعيد.. والسعيد هو البعيد.. سأجعل الليل إثمداً لأستعيد عافية الماضي وأداوي بها حمى أصابت الأرض المتشعبة فيّ كالنجيل. وأهذي وأعرف أني أهذي، ففي الهذيان وعي المريض برؤياه، لأنه أنبل مراتب الألم.



سيقول الطبيب مرة أخرى: إنه يشكو من سوء التغذية، فهل اقلع عن تناول زيت السمك؟ كلا، ولكنه يتذكر أشياء لا يحتملها من هو في مثل عمره.. يتمنى أن يكون فراشة، فهل للفراشات ذكريات؟ الفراشات هي الذكريات لمن يتقنون الغناء قرب نبع الماء، فهل غنّى؟ ما زال صغيراً فأنى له أن يدحرج الكلام على مصطبة من رمل؟ إنه يشكو من سوء الحاضر، فلتأخذوه إلى الغد..



ليس لنا في اليد حيلة ولا غد قالوا ونحن على هذه الحال، مربوطون إلى مصائر متينة التركيب، ومشدودون إلى هاوية بعد هاوية. نشتري الماء من آبار الجيران، ونقترض الخبز من سخاء الحجر. ونحيا، إن كان لنا ان نحيا، في ماض رضيع مزروع في حقول كانت لنا، منذ مئات السنين، إلى ما قبل قليل... قبل أن يختمر العجين وتبرد أباريق القهوة.. بساعة نحس واحدة دخل التاريخ كلص جسور من باب، وخرج الحاضر من شباك.. وبمذبحة أو اثنتين، انتقل اسم البلاد، بلادنا، إلى اسم آخر.. وصار الواقع فكرة وانتقل التاريخ إلى ذاكرة الأسطورة تغزو، والغزو يعزو كل شيء إلى مشيئة الرب الذي وعد ولم يخلف الميعاد.. كتبوا روايتهم: عدنا. وكتبوا روايتنا: عادوا إلى الصحراء.. وحاكمونا: لماذا ولدتم هنا؟ فقلنا: لماذا ولد آدم في الجنة؟



تذكّر، لتكبر، نفسك قبل الهباء

تذكر تذكر

أصابعك العشر، وأنس الحذاء

تذكر ملامح وجهك

وأنس ضباب الشتاء

تذكر مع اسمك، أمك

وأنس حروف الهجاء

تذكر بلادك، وأنس السماء

تذكر تذكر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حمدي علي الدين

حمدي علي الدين


عدد الرسائل : 31
تاريخ التسجيل : 08/04/2007

محمود درويش: في حضرة الغيابv Empty
مُساهمةموضوع: رد: محمود درويش: في حضرة الغيابv   محمود درويش: في حضرة الغيابv Icon_minitimeالسبت أبريل 14, 2007 11:58 pm


منقول عن ملتقى أدباء العرب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
محمود درويش: في حضرة الغيابv
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الريح :: أرشيف الهذيان :: أرشيف الهذيان-
انتقل الى: