المياه كلها بلون الغرق
آدم فتحي يترجم ايميل سيوران
توفيق الشابي
يسعد القارئ عندما يظفر بكتاب يمتعه فلا يمل قراءته. يحقق إضافة ينشدها تجعله يعود إليه وأحيانا يحقق تحولا ما في نظرته للأشياء ويفتح الرؤية على آفاق أرحب وخاصة عندما يتعلق الأمر بالكتابة. هذا ما حصل لي مع كتاب ايميل سيوران الذي ترجمه الشاعر التونسي آدم فتحي تحت عنوان المياه كلها بلون الغرق. حسب تقديم المترجم يبدو سيوران غريبا بعض الشيء عن قارئ العربية بالنظر إلى غياب ترجمات حقيقية لمنجزه . الكاتب الذي أنجز أكثر من خمسة عشر كتابا لم يترجم له سوى كتاب واحد وبعض الشذرات هنا وهناك إلى غاية 2004. بل يبدو سيوران غريبا بعض الشيء حتى في المشهد الثقافي الغربي. في حياته كان يقيم في زاوية شبه مظلمة من هذا المشهد وذلك لأسباب كثيرة منها أنه اختار الابتعاد عن الأضواء الاعلامية فكان هاجسه الأساس هو الكتابة وليس الشهرة أيضا لطبيعة أفكاره فهو الابن الوفي لنيتشه بقلقه وشكوكيته حتى ليبدو العدو اللدود للاطمئنان فهو يقول (لا أملك أفكارا بل وساوس...) إضافة إلى أنه كان على النقيض من أسماء مكرسة تملأ المشهد بلا توقف كسارتر.
يتميز سيوران في هذا الكتاب بكتابته للشذرة. حيث المزاوجة بين الشعر والفكر لتكون كتابة تأملية بامتياز. كتابة عند الخط الفاصل بين الشعر والفلسفة. تأمل لظواهر الأشياء وأعماقها. تأمل للنفس البشرية للتاريخ /للدين /للموسيقى/للغرب... لا شيء يمر دون أن يسبر سيوران أغواره يستنطقه ليختصره في كلمات قليلة لكنها عميقة وصالحة لأزمنة قادمة. كتابة كهذه تجعلك تنظر بسخرية لا تنتهي إلى كل المعارك التي تحدث هنا وهناك حول قصيدة النثر/ شعر التفعيلة الشعر/الرواية ... الجمال في مكانه العالي دائما لا ينصت إلى أصوات المعارك.
الكتاب يحقق المتعة لأنك لا تشعر بأنك إزاء كتاب مترجم من لغة أخرى. لغة كثيفة ومنسابة قريبة من النفس وعلى إيقاعها. ستحتاج العودة إليها بالتأكيد. يعود هذا إلى طبيعة النص ولكن إلى الترجمة أيضا وبنسبة كبيرة.
سيوران في هذا الكتاب قلق شكاك وجريء أيضا لذلك كما ذكر المترجم نحتاج قراءته ولكن بأكثر من عين وخاصة في هذه المرحلة المترعة بالفوضى حيث لا شيء يحيل إلى غير العبث وكل شيء يدعو إلى المراجعة .
المياه كلها بلون الغرق يحقق المتعة والإضافة ويجعل الشاعر آدم فتحي ضمن أهم المترجمين العرب كصبحي حديدي وعبد القادر الجنابي وآخرين. الكتاب صادر عن دار الجمل ألمانيا سنة 2004.
وهذه بعض المختارات من الكتاب.
-1-
توجعني كل كلمة ومع ذلك كم سيلذ لي أن أنصت إلى الزهور وهي تثرثر حول الموت.
-2-
بحذر شديد أحوم حول الأعماق أختلس منها بعض الدوار ثم أنفلت مثل لص الأغوار.
-3-
المياه كلها بلون الغرق.
-4-
مع شرايينك المحتقنة بالليل أنت لا تقل غربة بين البشر عن شاهدة قبر وسط سيرك.
-5-
تائها في الضباب أتعلق بأدنى أسى كأنه حبل نجاة.
-6-
بعد الاستعارات تجيء الصيدلية. هكذا تهترىء المشاعر الكبيرة.
-7-
الواقع يصيبني بالربو.
-8-
حين نكون على بعد آلاف الأميال من الشعر نظل نساهم فيه بتلك الحاجة المفاجئة للعواء؟ آخر درجات الغنائية.
-9-
العقل هو المستفيد الكبير من هزائم الجسد. يثري على حسابه. يسلبه. يهلل لمآسيه. يعيش على اللصوصية.
الحضارة مدينة بنجاحها لقاطع طريق.