بوكوفسكي:الفرق بين شاعر جيد وشاعر رديء هو الحظ
ترجمة وتقديم: زياد عبدالله
كان على الكاتب الأمريكي تشارلز بوكوفسكي (1920 – 1994) السفر إلى نيو أورليانز للتعرف على الناشر جون وب، أو الأصح ليتعرف جون على بوكوفسكي الذي يؤمن بضرورة تعرفه على الكاتب قبل أن ينشر له. قبل أن يغادره بوكوفسكي، صرخ جون في وجهه: " بوكوفسكي أنت سافل، لكني سأنشر كتابك". كان هذا طبيعياً جداً، ذلك أن تشارلز بوكوفسكي هو آخر كاتب يمكنه زعزعة إيمان جون الراسخ بأن الكتاب سفلة متى كانوا بعيدين عن الآلة الكاتبة.
في عام 1965 وبعد نشر جون "بيديها تمسك قلبي"، كان على بوكوفسكي كتابة المزيد من القصائد في واحد من شهور نيو أورليانز الحارة وذلك لإرضائه. حفنة من القصائد وسيتحسن مزاجه. وهكذا واصلت الكتابة – يروي بوكوفسكي – ثملنا أنا وجون وزوجته لويز في مطبخه المليء بالصراصير. كان المكان ضيقاً والصفحات 5،6،7،8 مكدسة في حوض الحمام، لا أحد يستطيع الاستحمام. والصفحات1،2،3،4 كانت في صندوق كبير للثياب، وسريعاً لم يبق مكان لأي شيء.
في كل مكان رزم أوراق بعلو سبعة أقدام ونصف. كنا نتحرك بحذر شديد. الحوض كان نافعاً لكن السرير أعاقنا ولذلك بنى جون عليّة صغيرة من الخردوات مع سلم، ونام جون ولويز فيها ورُحِّل السرير. صار هناك متسع لتكديس الأوراق. بوكوفسكي، بوكوفسكي، في كل مكان . . سأجن . . . صرخت لويز. الصراصير تدور بينما تتجرع المطبعة قصائد" صليب في يد الموت".
بلا رحمة وبلا أدنى شك بحماقتها، يعاين بوكوفسكي الحياة، ويحرص على مرارتها ومذاقات أخرى حافلة بآثامه وأفراحه وتشرده، متنقلاً من عمل إلى آخر: سائق شاحنة، غاسل صحون، حارس سيارات، ساعي بريد، عامل مصعد، عامل في مسلخ بهائم، مجند في الصليب الأحمر …الخ ولكي لا ينتحر، شرب وقرأ، أعجب بسيلين ودوستويفسكي وهمنغواي وميلر. وما بين سكرتين قويتين لم ير وصول "حركة البيت" إلى مجدها وعلى رأسها، الثالوث المقدس، وليم بوروز وجاك كيرواك وآلن جينسبرج، كذلك لم ير جميع دعاتها: كورسو وسبندر وكاسادي وماك كلور وهو في اليوم الذي نشر فيه كتابه الأول في العام 1959 وكان ديوان شعر يتضمن "قصائده المهلوسة" كان بوروز قد نشر "جنكي" و"الوليمة" وجينسبرج "عواء" و"قاديش" وكرواك "البلدة والمدينة" و"على الطريق" ليوجد نفسه في محيط يدفع المرء حقاً، إلى الشعور بالانهيار الكامل، وأنه لم ينجز شيئاً إزاء هؤلاء. "كنت أعيش في عليّة في فيلادلفيا، في الصيف تصبح حارة، لذا أبقى في الحانات. لم أكن أملك فلساً واحداً، فوضعت إعلاناً في الجريدة وقلت أني كاتب يبحث عن عمل... كانت كذبة لعينة، أنا كاتب يبحث عن بعض الوقت والقليل من الطعام وما يكفي إيجار عليّة".
لا يمكن وصف أدب تشارلز بوكوفسكي إلا بمرآة هائلة حافلة بمشاهد لا متناهية لما وقعت عليه عيناه ولامسته يداه، أو حياته في هكذا حياة لم يغفر لها قسوتها، ولم يفوّت فرصة واحدة، سطراً واحداً دون أن يهزأ بها. قصائد وقصص بجنون ورعب الحياة. "قصائد كتبت قبل القفز من نافذة الطابق الثامن"، بنبل الحياة ورداءتها، بنضرتها يا للعفونة! قصائد أو ترانيم ناشذة للرداءة بوصفها أول وآخر ما توصلت إليه البشرية وليكن "أنا كاتب رديء" يقول بوكوفسكي في صوت من أصواته ويضيف في آخر: "ذات مرة سجلت صوتي وأنا أقرأ قصائدي عل مسمع أسد في حديقة الحيوان فزأر بعنف، وكأنه يتوجع، والشعراء كلهم يستمعون لهذا التسجيل ويضحكون عندما يثملون".
لا ينفي تشارلز بوكوفسكي اتهامات بعض النقاد لأدبه بالسطحية والإباحية رغم أنه بعيد عن ذلك. كما أنه لا يهتم بصعود المواهب البارزة لأنهم سرعان ما سيكتبون من سيء إلى أسوء، ولكي تصير كاتباً كبيراً برأيه عليك أن تنام حتى الزوال، وأن تذهب إلى مراهنات الخيل، تراهن وتكسب إن كان بمقدورك، لأن بإمكان أي حقير أن يصبح خاسراً جميلاً. لا تنتظر رسالة أو مكالمة من أحد. عليك بالنساء – النساء الجميلات – وكتابة أقل عدد ممكن من القصائد العاطفية. اشرب المزيد المزيد من البيرة وتبول القصائد.
"من الصعب جداً أن أجد اسماً لما يدفعني للكتابة يقول بوكوفسكي... ربما كان ذلك بسببين: القرف والفرح. صحيح أني لا أشعر بهما في الوقت نفسه، إلا أنهما يشكلان حقل تماريني".
بعد محاولاته العديدة في القصة يكتب قصيدته الأولى في الخامسة والثلاثين من عمره، وتفاجئه الشهرة في الخمسين. خمسون سنة لم يتوقف قلمه لحظة واحدة عن الكتابة، فاتحاً ذراعيه أمام حياةٍ يتقزز منها ويلتهمها. حياة ملؤها الفشل والصخب والهزيمة والفرح، يعيش على الحظ حسب ما يقول، ولربما في هذا الكثير من الحقيقة إن تعلق الأمر بقصائده التي نجت من مصير القمامة بفضل عادة غريبة عند صديقه جون توماس هي إدمانه على تسجيل أي حديث يجري في غرفته بما فيه عدد كبير من قصائد بوكوفسكي التي كان يقرأها في سهراته معه لينساها بعد ذلك تماماً. ولولا مسجل توماس لبقيت إجابة بوكوفسكي كما هي أمام رغبة "بلاك سبرو" بنشر كتاب له "ليس لدي أية قصائد جديدة حاليا"ً ولما عادت القصائد لتستقر بين دفتي كتاب متلقية عنوانها بوداعة " في شارع الرعب . . في درب الأسى".
شاعر، قصاص، روائي. كتبه التي تجاوزت خمسةً وأربعين كتاباً جنون لا ينضب أو عزف منفرد على آلة كاتبة تحرص على إخماد روح شفافة لا تني تتسرب من بين السطور وتنتقم من كاتبها لكاتبها، بنصوص تلوح وتعانق بدل أن تصفع، تتضرع بصرخات سرعان ما يتبدّى رنينها.
رومانس أدبي
يمكنني القول أني عرفتها عبر المراسلة أو الشعر أو المجلات
وبدأت ترسل لي قصائد مثيرة جداً عن الشبق والاغتصاب،
وكونها مشوبةً بذهنيةٍ طفيفة حيّرتني قليلاً
ركبت سيارتي وتوجهت شمالاً
عبر الجبال والوديان والطرق العامة
بلا نوم، صاحياً من السكر، مُطلِقاً للتو،
بلا عمل، هرم، متعب، بودي النوم لخمس
أو عشر سنوات على الأقل، أخيراً وجدت نزلاً
في بلدةٍ صغيرة مشمسة بجانب طريقٍ موحل،
وجلست هناك أدخن سيجارة
أفكر، لابد أنك مجنون،
ثم خرجت متأخراً ساعةً
عن موعدي، كانت شمطاء لعينة
بعمري تقريباً، وليست مثيرة جداً
وأعطتني تفاحةً فجة
مضغتها بأسناني المتبقية،
كانت تموت بداءٍ مجهول
شيء مثل الربو، وقالت
أنها تريد أن تخبرني سراً، قلت،
أعرف، أنت عذراء، في الخامسة والثلاثين من عمرك.
ثم أخرجتْ دفتراً
عشر أو اثنتا عشرة قصيدة
نتاج حياة وكان علي
قراءتهم
وحاولت أن أكون لطيفاً
لكنهم كانوا بمنتهى السوء.
ثم أخذتها إلى مكانٍ ما، إلى حلبات الملاكمة،
وسط الدخان سعلت
وظلت تراقب الناس حولها
ومن ثم الملاكمين
شابكةً يديها.
رغم أني انثرت بحق تلك الليلة على التلال،
سألتني .. ألم تعرف يوماً الإثارة!
وقابلتها ثلاث أو أربع مرات
ساعدتها في بعض قصائدها
وأقحمتْ لسانها نصف المسافة
إلى حنجرتي
لكن عندما تركتها
كانت ما تزال عذراء
وشاعرة رديئة جداً.
أعتقد أن امرأة لم تفتح ساقيها
طوال خمس وثلاثين سنة
سيكون قد فاتها الشعر
والحب.
*****
إلى العاهرة التي أخذت قصائدي
_______________________
البعض يقولون
علينا أن ننأى بندمنا الشخصي عن القصيدة،
ابقَ محايداً، و هناك سببٌ في ذلك،
لكن يا يسوع:
اثنتا عشرة قصيدةٍ اختفت ولم أحتفظ بنسخٍ عنها
ولديكِ أيضاً لوحاتي، أفضلها
هذا خانق:
هل تحاولين تحطيمي مثل البقية؟
لمَ لم تأخذي مالي؟
عادةً ما يفعلون
من بنطال سكيرٍ مكوّمٍ في الزاوية.
في المرة القادمة خذي ذراعي الأيسر أو خمسين دولاراً
لكن قصائدي لا:
لست شكسبير
وببساطة أحياناً
لن يكون هناك المزيد، محايدة أو غيرها؛
دائماً سيكون هناك مال وعاهرات وسكيرون
إلى آخر قنبلة.
لكن
كما قال الله
واضعاً رجلاً على رجل
أعرف أني خلقت الكثير من الشعراء
لكن
القليل من الشعر.
*****
حياة بورودين*
__________
في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكر أنه كان كيميائياً فحسب
ألّف الموسيقى ليرتاح،
كان بيته مكتظاً بالناس:
طلاب، فنانون، سكيِّرون، معربدون،
ولم يتعلم أبداً كيف يقول:لا.
في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكر زوجته التي استعملت مؤلفاته
لفرش علب القطط
أو لتغطية مرطبانات الحليب الفاسد
كانت تعاني من الربو والأرق
وتطعمه بيضاً نصف مسلوق
وعندما يود إخماد الأصوات في البيت
تسمح له فقط باستعمال الملاءة
إضافةً إلى كون أحدهم في سريره عادةً
(كان كلٌّ لوحده ينام هذا إن ناموا)
وبما أن كل الكراسي استولي عليها
غالباً ما نام على الدرج
ملفوفاً بشالٍ مهترئ
كانت تخبره متى يقلِّم أظافره
وألا يغني أو يصفر
أو أن يضع الكثير من الليمون في الشاي
وألا يعصرها بملعقة.
B السيمفونية الثانية، مينور
الأمير إيغور
على أبواب آسيا الوسطى.
لم يكن بمقدوره النوم
ما لم يضع قطعةً من القماش الأسود على عينيه.
في عام 1887 حضر حفلةً راقصة
في الأكاديمية الطبية
مرتدياً زي مهرجٍ شعبي،
في النهاية بدا مرحاً على غير عادته
وعندما سقط على الأرض
ظنوا أنه يهرج.
في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكر …
****
الفرق بين شاعر جيد وشاعر رديء هو الحظ
_______________________________
أظن ذلك.
كنت أعيش في عليّةٍ في فيلادلفيا
في الصيف تصبح حارة لذا أبقى
في الحانات. لم أكن أملك قرشاً وبالتالي وضعتُ إعلاناً في الجريدة
بما تبقى تقريباً وقلت أني كاتب
يبحث عن عمل . . .
كانت كذبةً لعينة، أنا كاتب
يبحث عن بعض الوقت والقليل من الطعام وما يكفي إيجار علية.
بعد يومين عندما عدت في النهاية
من مكانٍ ما
قالت صاحبة البيت، أن أحدهم كان يسأل عنك.
وقلت،
لابد من خطأ ما. قالت،
أبداً. كان كاتباً وقال انه يريدك أن تساعده في تأليف
كتابٍ في التاريخ.
أوه، جيد، قلت، وعرفت بذلك أن إيجار أسبوعٍ آخر
صار معي – أعني، بالدين –
هكذا جلست أشرب نبيذاً على الحساب وأراقب
الحمامات الحامية
تعاني وتتجامع على سطحي الساخن
أدرت "الراديو" على أعلى صوت
شربت النبيذ وتساءلت كيف يمكن أن أجعل من كتاب تاريخ
كتاباً ممتعاً وأميناً بنفس الوقت.
لكن السافل لم يعد،
وكان علي أن أتعاقد مع جماعة سكة الحديد
المتجهة غرباً
وأعطونا معلبات دون
فتّاحات
ثم كسرناها على المقاعد وأطراف عرباتٍ
عمر غبارها مئة عام
كان الطعام نيئاً والماء بطعم
فتيل الشمع.
ثم قفزت إلى أجمةٍ في مكان ما
من تكساس
كله أخضر مع بيوتٍ جميلة
على مدِّ النظر
وجدت حديقةً
نمت فيها طوال الليل
بعدئذٍ عثروا عليّ ووضعوني في السجن
وسألوني عن مجرمين
ولصوص.
أرادوا أن يعرضوا الكثير مما تحتويه سجلاتهم
ليثبتوا فعاليتهم
لكن لم أكن ذلك الملول
ثم اقتادوني إلى البلدة المجاورة الكبيرة
التي تبعد سبعة وخمسين ميلاً
الرجل الضخم ركل مؤخرتي
ثم رحلوا.
لكني وفِّقت:
بعد أسبوعين كنت جالساً في مكتبٍ في مبنى البلدية
نصف نائمٍ في الشمس مثل الذبابة الكبيرة على مرفقي
ومن حينٍ لآخر كانت تأخذني للأسفل إلى اجتماع المجلس
وكنت أنصت بدقةٍ كما لو أني أعرف ما الذي يحدث
كما لو أني أعرف كيف بُددت موارد البلدة الحقيرة.
بعد ذلك أويت إلى السرير واستيقظت وكلي آثار أسنان،
قلت، يا إلهي، عزيزتي، انتبهي! يمكن أن تصيبيني
بالسرطان! وأنا أعيد كتابة تاريخ حرب القرم!
جميعهم أتوا بيتها
كل "الكاوبوي"، كل "الكاوبوي"
بدناء، بلهاء ومغبرين
وتصافحنا جميعاً.
كنت أرتدي بنطلون "جينز" مهترئ، وقالوا
أوه، أنت كاتب، آه؟
وقلت: حسناً، البعض يظن ذلك
والبعض مازالوا يفكرون بذلك
آخرون، بالطبع، لم يسمعوا بي بعد.
بعد أسبوعين
طردوني
خارج البلدة.
****
العمال
_____
دائماً يضحكون
حتى لو
سقط لوحٌ من الخشب
وحطَّم وجهاً
أو شوَّه جسداً
يتابعون الضحك
عندما لون العين
يمسي كامداً مخيف
من الإنارة الخافتة
مع ذلك يضحكون،
هرمٌ ومعتوه
في مقتبل العمر
ينسجون نكتةً حول ذلك:
من بدا في الستين
سيقول
أنا في الثانية والثلاثين،
ومن ثم يضحكون
جميعهم سيضحكون
أحياناً يخرجون
لبعض التنفس
لكنهم مقيدون بالعودة
بسلاسل لن يكسروها
وإن استطاعوا.
في الخارج أيضاً
وسط الناس الأحرار
يواصلون الضحك
يمشون هنا وهناك
بمشيةٍ عرجاء بلهاء
كمن سيغمى عليه،
في الخارج
يمضغون بعض الخبز،
يفاصلون بالأسعار، ينامون، يعدّون قروشهم،
يحدقون في الساعة،
ويعودون.
أحياناً في حجراتهم
يمسون جديين
لحظة يتكلمون عن الخارج
وكم هو مرعب
أن تُطرد للخارج للأبد
غير مسموحٍ لك بالعودة.
مكان عملهم دافئ
ويتعرقون قليلاً،
لكن بجدٍ واجتهاد يعملون
يثابرون على عملهم إلى أن
تثور الأعصاب
مسببةً الرجفة
لكن غالباً ما يثني عليهم
من كانوا بينهم
وارتقوا كنجوم تراقبهم الآن
تراقب جيداً
القلة ممن يحاولون التقاعس
أو المهملين
أو المتمارضين لنيل استراحة (الاستراحة تُعطى
لاستجماع القوة من أجل عملٍ أفضل)
أحياناً واحدٌ يموت
أو ُيجن
ومن ثم يأتي واحدٌ جديد
من الخارج
ويُمنح فرصة.
لأعوامٍ عدة
كنت هناك
في البداية آمنت أن العمل
رتيب، لا بل تافه
لكني الآن عرفت
أن كله معانٍ
والعمال حقاً ليسوا بقبيحين
دون وجوه
وتلك الرؤوس دون أعين –
عرفتها الآن
عيوناً ترى
وقادرة على انجاز العمل.
العاملات
غالباً كنَّ الأفضل،
جاهزات بالفطرة،
في أوقات الراحة
مارست الحب مع بعضهنَّ، في البداية
بدونَ أقرب
لإناث القرود
لكن فيما بعد
أدركت بتبصر
بأنهن أشياء حقيقية ومفعمة بالحياة
مثلي.
في إحدى الليالي
عاملٌ عجوز
أشيبُ وأعمى
لم يعدْ نافعاً
تقاعد
إلى الخارج.
كلمة! كلمة!
طالبنا
كانت جهنم
قال.
ضحكنا جميعاً
نحن الأربعة آلاف
لقد أبقى فكاهته للنهاية.