فرجينيا وولف .. آهٍ كم أعاني
فريدة النقاش
رواية " فيرجينيا وولف "
التي لم تكتب بعد
يلزم أن تحددي خانةً بيضاء
على مسافةٍ معقولة
من حصوات رابضة في قاع النهر.
حصواتٌ
ترقبُ الواقفةَ على الشاطئ
مشجوجةَ الرأس
تسمي الأشياءَ بأسماءٍ جديدة
لأن معجمها
ـ الذي جلبته من التبت ـ
لا يناسب سكان المدينة.
حين نقرأ هذا التصدير للترجمة التي قامت بها الشاعرة المصرية "فاطمة ناعوت" للرواية القصيرة "رواية لم تكتب بعد" للكاتبة الإنجليزية "فيرجينيا وولف"، سوف نسأل على التو إن كانت غــربة "وولف" في أوائل القرن العشرين هي ذاتها غربة "فاطمة ناعوت" في بدايات القرن الواحد والعشرين وهي تسمى الأشياء بأسماء جديدة لا تناسب سكان المدنية، وتطلق روح الإبداع دون وجلٍ مخترقة الأمكنة والمسافات.
وسوف يكون علينا أن نتأمل في هذه الحصوات "المتخيّلة" الرابضة في قاع النهر، إذ نعرف يقينا أن "فيرجينيا وولف" كانت قد ملأت جيوبها بالحصى "الحقيقي" حتى تعجز عن مقاومة الغرق حين قررت الانتحار وماتت مثقلةً بالحصى. الشيء المؤكد أن حصوات "فاطمة ناعوت" في قاع النهر يمكن أن تكون لآليء، ويمكن أيضا أن تكون محارات خاوية، فهل بوسعنا أن نعد ذلك الفرق تغيرًا جوهريًا بين قرنين في مسيرة المرأة المبدعة وهي تحمل أثقالها وقرابينها وأغلالها وتمضي ساعية بجهد جهيد لأن تتحرر في الإبداع وبه من كل أشكال التمييز ضدها التي تشكّلت تاريخياً ؟ ربما.
وتماما مثلما أن "الرواية" التي لم تكتب بعد، هي بنت عالم متخيّل مولود في قلب متخيل آخر هو الرواية ذاتها التي تبقى ناقصة مثل سيمفونية " شوبرت "، فإن الحوار الذي أُجرى مع " فيرجينيا وولف " بعد أكثر من ستين عاما على رحيلها هو ـ رغم كونه بالطبع متخيلا ـ قريب جداً للحقيقة، لأن إجابات الكاتبة فيه مستمدة بدقة من مجمل مذكراتها وأعمالها الإبداعية والنقدية التي وإن اكتملت بموتها فإنها لفرط غناها وتنوعها لم تقرأ كلها قراءة نقدية فاحصة بما يكفي، وهذا هو شأن الأعمال الأدبية العظيمة على امتداد التاريخ التي يظل النقد يكتشف فيها كل حين مستويات وأعماقا جديدة لأنها تبقى حاضرة عبر الزمن.
اختارت "فاطمة ناعوت" عنوانا شعريا لترجمتها بل جعلته العنوان الرئيسي "جيوب مثقلة بالحجارة"، وأظن أن في هذا الاختيار افتئاتا على حق المؤلفة الحقيقية وروايتها التي هي متن الكتاب الأصلي.
وفي العنوان ـ كما هو واضح ـ إشارة للطريقة التي " ابتدعتها " " فيرجينيا وولف " للانتحار عام 1941 وكأنها استكمال لمسيرة إنتاجها الأدبي المتنوع، وذلك حين ملأت المرأة جيوب معطفها بالحجارة ومشت في ماء النهر لتموت غرقا بعد أن استشعرت قرب هجوم للاكتئاب على عقلها، والذي عادة ما كان يودي بها إلى الانهيار والاقتراب من الجنون. حدث ذلك قبل أن يتقدم العلم والطب على طريق اكتشاف المرض وطرق علاجه، وكانت حالات الانهيار تلك تجعلها عاجزة عن الكتابة وتسبب لها ولمن حولها آلاما بلا حد.
ولم تكن فكرة الانتحار قد غابت عنها قبل الانتحار الفعلي فقد سجلت فرجينيا آراءها حول عملية الانتحار بينما كانت في الثلاثينات من عمرها، وكانت في حال صحية جيدة آنذاك قالت فيها " يباغتني، مع صفق الرعد، فجأة شعور حاد بعدم الجدوى التام لحياتي، هذا شيء يشبه الركض برأسك صوب حائط في نهاية حارة مسدودة0"
وبعدها بستة أشهر عادت "فيرجينيا" إلى الموضوع ثانية وكتبت "لماذا شعرت بالانفعال بعد المحفل؟ سيكون أمرا مثيرا أن تعتمدي على بصيرتك الداخلية لترى إلى أي حد يمكنك الكتابة عن حالات العقل المختلفة التي تقودك إلى أن تقولي لليونارد حين تعودين إلى البيت: لو لم تكن هناك لكنت قتلت نفسي! آه، كم أعاني ".
وكان الانهيار الأول لها قد حدث وهي في الثالثة عشرة والثاني في الثانية والعشرين ثم الثامنة والعشرين فالثلاثين ثم أمضت الفترة بين الواحد والثلاثين والثالثة والثلاثين كاملة يتناوبها المرض لفترات طويلة ومتواترة حتى خشي الأطباء من إطباق الجنون التام والدائم عليها.
وفي رسالتها الأخيرة لزوجها كتبت "وولف": "أيها الأعز، لدى يقين أنني أقترب من الجنون ثانية. وأشعر أننا لن نستطيع الصمود أمام تلك الأوقات الرهيبة مجددا فلن أشفى هذه المرة ـ بدأتُ أسمع الأصوات ولم يعد في وسعي التركيز، لهذا سأفعل الشيء الذي أظنه الأفضل،" ثم تضيف: " لقد كنتَ صبورا إلى أقصى حد، وطيبا على نحو لا يصدق، أود أن أقول هذا ـ كل الناس يعلمون هذا. إذا كان ثمة من أنقذني فقد كان أنت. كل شيء ضاع مني إلا يقيني بطيبتك لا أستطيع أن أستمر في إفساد حياتك أكثر0"
وتحول المشروع الذي كان يراودها منذ بدايات المراهقة إلى فعل وانتحرت "فيرجينيا وولف" بعد أن تقدمت بشهادة عرفان للرجل المحب الذي ساندها لآخر مدى كاتبةً وإنسانة، وكانا قد اتفقا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية أن ينتحرا معا بالغاز إذا ما وصلت جيوش هتلر إلى لندن خاصة وأن زوجها كان من أصل يهودي.
نستمتع في هذا الكتاب بأجزائه الأربعة بقطعة فنية محكمة الصنع، رواية "فيرجينيا" التي لم تكتب بعد، وبطلتها التعسة الجالسة في القطار، ومقدمة "فاطمة ناعوت" المجتهدة المكتوبة بروح شعرية ممتلئة حباً للمؤلفة الرائدة وللكتابة الجديدة التي فتحت هي أبوابها. وفي ظني أن ناعوت استمدت هذا الإتقان البالغ في ترجمتها من ذلك الحب سواء في نص الرواية أو الحوار المتخيل مع "فيرجينيا وولف" الذي ترجمته من الانترنت، ثم تصدير الكتاب للناقد د. ماهر شفيق فريد أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، الذي رأى لرواية وولف باعتبارها "ثمرة حساسية حداثية تخترق طرائق السرد التقليدي والوصف الخارجي، وتحطم قواعد المنظور لكي تنفذ من قشرة المظاهر الخارجية إلى اللب الروحي العميق، وهو وصف ينطبق على الغالبية العظمى من أعمال فيرجينيا وولف "كقصيـدة نثر متطاولة".
ويتتبع الناقد أصول الرواية القصيرة في مقالة كانت قد كتبتها المؤلفة عام 1925 بعنوان السيد بينيت والسيدة براون ". وفيها تروي الكاتبة لقاء في عربة قطار بينها وبين سيدة ستطلق عليها اسم السيدة " براون " باعتبارها نسخة مبكرة من " ميني مارش " بطلة الرواية التي لم تكتب بعد. وربما قبعت السيدة براون في الخلفية ـ بينما فيرجينيا ـ تبني العالم المتخيل لميني مارش التي تجد ابنها في انتظارها على محطة القطار لينهار العالم المتخيل للرواية من التعاسة والوحدة وإذ يتجادل فيه الداخل والخارج في حركة دائبة.
وكانت " السيدة براون " أو الطبعة الأولى من " ميني مارش " " تحتفظ في قلب تعاستها بكبريائها الإنساني وروحها النبيل ".
ونستطيع أن نستخلص هنا أن "فيرجينيا وولف" تصف نفسها، هي التي كانت حياتها منذ الطفولة سلسلة من الفقد والتعاسة وآلام الفراق وحسرته وهو ما تتبعته " فاطمة ناعوت" في تقدمتها الشاملة بدءا من فقد الأم والأب وتأثير ذلك كله على حياة وولف وفنها، على "نحو يجعل من هذه التقدمة أثراً فنيا بحقها الخاص"، كما يقول ماهر شفيق فريد. ويكتسب قوله هذا مصداقية إضافية لدى الذين ألفوا حالة التعقيد والغموض والتفكك البنائي الشكلي ومستويات المعنى والدلالات المتعددة والرموز الغنية التي تتسم بها الأعمال الإبداعية "لفيرجينيا وولف" وتجعل قراءتها متعة وجدانية وعقلية بالغة التركيب لأنها "اختارت أن تكتب روايات يتكشف الفكر فيها على نحو دقيق إلى الحد الذي تفقد معه الكلمات عالمها بذلك الحذق الانفعالي، والتفسير المركب للحالات النفسية حين تدع الشيء ثابتاً وتجعل العقل يدور حوله، وحول كل التداعيات التي يستثيرها" على حد قول أحد النقاد.
وفي مقالها السيد " بينيت والسيدة براون " تعطينا "وولف" مفتاحا لقراءة روايتها التي لم تكتب بعد. ففي هذا المقال ساجلت وولف الروائيين الواقعيين الإنجليز مثل "جون جولز وورثي وهـ. ج. ويلز" وغيرهم حيث اتهمتهم بمعالجة ـ القشور واللعب فوق منطقة السطح بينما ينبغي من أجل اختراق العمق وتقليص المساحة المحظورة في تناول الحياة والاستفادة من أدوات الكتابة المتاحة مثل تفعيل تيار الوعي والحوارات الذاتية للشخوص، وكذا الانصراف عن السرد الخطي والبناء الهندسي للحدث والزمن.
انشغلت "وولف" فكريا وإبداعيا بقضية تحرير المرأة هي التي حرمت من التعليم في الجامعة لأنها امرأة، وكتبت في هذا السياق ما يمكن أن نسميه مانيفستو الحركة النسائية الجديدة في العالم "غرفة لها"، وهكذا كنت قد ترجمت عنوان هذا النص الفاتن منذ درسته في كلية الآداب جامعة القاهرة في مطلع الستينات من القرن الماضي، ومثلي مثل " فاطمة " لم أكن مرتاحة للعنوان الذي اختارته د .سمية رمضان للنص حين قامت بترجمته وهو " غرفة تخص المرء وحده " فبدا العنوان مترجما ولم يكتسب تلك الحميمية التي تجعله أصليا ولذا فضلت دائماً "غرفة لها"، ورغم اعتراض "فاطمة" على اختيار "سمية" للعنوان فقد استخدمته من قبيل الأمانة.
تقول فاطمة استخلاصا لموقف وولف تجاه تحرير المرأة إنه "فيما أٌقصى "جسد" المرأة الحقيقي عن المؤسسة الثقافية، ظلت المرأة "كجسد" دوما موضوع المجاز الأدبي والتعبير الفني لدى الكاتب الرجل، وكذلك مادة استقراء لدى مختلف الدراسات السيكولوجية والسوسيولوجية، واعتمد الرجال على النساء ليكنَّ الشاخص الجاهز لتصويب السهام، والشاشة التي تعرض عليها النظريات والإخفاقات الذكورية "فالرجل لا يرى المرأة سوى في "أحمر العاطفة لا في أبيـض الحقيقة" كما تقول "وولف"، هي التي رفضت بحسم مبكر جدا أن تكون الحتمية البيولوجية أساسا للتمايز الحقيقي بين الجنسين، وطالبت بحق المرأة المبدعة في دخل يوفر لها عيشا كريما و" غرفة لها " لأن الكتابة تحتاج لخصوصية.
غاب عن هذه الجولة الضافية في عالم " وولف " حديث عن المكان، فيما جرى التركيز على الزمن باعتبار تقاطعاته واستعاداته هي المرتكز البنائي في عالم المؤلفة0 ويكتسب المكان أبعاداً دلالية متنوعة عند " وولف " هي التي تكرر في نصوصها تعبير الحياة الذي يشمل الواقع الاجتماعي الاقتصادي ويحتضن الكون كله، ويحتاج القطار والبحر والنهر والمنارة إلى اكتشاف جديد، وقراءات أخرى في عالم "وولف"، "أعظم رموز الحزن في التاريخ" كما وصفتها فاطمة ناعوت.
ولعل هذا الكتاب الجميل يدعونا إلى النظر في تأثير فيرجينيا وولف على القص العربي. ذلك أن البناء الروائي الذي استحدثته لم يستنفد أغراضه بعد بل ظل وسيبقى ملهما لمبدعين جدد على امتداد العالم فكتب المؤلف المسرحي الأمريكي "إدوارد ألبي" مسرحيته "من يخاف من فيرجينيا وولف"، وكتب مايكل كننجهام روايته "الساعات" من وحي عالمها وقصة موتها الفاجع مستخدما فكرة الانتقال في الزمن ليدخل إلى عالم الرواية شخصيات من زماننا تتجادل مع عالم " وولف الثري وتحولت الرواية إلى فيلم قبل عامين حصد عدة جوائز أوسكار.
إنه الفن الجميل الخالد.