قرعت أبواب الشقق ، فُتحت لها الأبواب و أغلقت ، رسمت على محياها ابتسامة برغم الحزن المستوطن على شفتيها ، حزن غائر عميق لا ينجلي ، مختبئ بين شقوق أيامها ، تجاعيد الشيخوخة نبت فوقها جرح قديم متقيح ، جمعت يديها و شابكت أصابعها حين هامت بالسؤال ، منعها حياءها من التسول ، مد اليد ليس كالتقاط الرغيف ، خجلها حال بينها و بين طـــلب الصدقة و الشفقة ، حليب كبرياء شربته من صغرها ، أكياس الكتــــــانو البلاستيك لا تفارقها ، جمعت و طوت ، تأبطت جوعا ، ملاية سوداء ، لحاف ، شال صوفي لا يبرح كتفيها ، قطعة من عذاب تضاف للـجســد الهش، عيناها غائصتين ممتلئتين أسرارا ووجعا ، عميقتين كقاع بحر ، موغلتين في القدم ، ترفضان الإفصاح ، عينان مالكتان قصصا و حكايات ،لو يباح المكنون وتمثـّـل المشاهدة لتوقف العالم هنيهة لسماع نغم الشجن الحزين، لو قدر للنمل و حكى بلغة البشر لقال: هي آية يأخذ منها درس الحياة... شقاء، لا تكل، حفـّت بالعمارات و الأبنية و الأقبية، بالأحيـــاءو الأزقة ، بحثت في القمامة عن الرغيف ، حاويات الأوساخ تعرفها عنوانها هناك ، أخرجت منه خبز القمح و الشعير، لم تسأل يوما نفسها : لو كانت ترمي الخبز و غيرها يجمعه ، تبادل الأدوار ، عرفت العالم لم يخلق لغيرها و لا هي طرفا مسلوخ عنه ، تيقنت بسذاجتها أن العالم بها يكون في جمعها بقايا الخبز و الرغيف ففيه حياة دجاجاتها و إوزاتها ، كلبها الذي يحرسها هو أمينها و أنيسها ، ليت الخلق كما الكلاب تهدي مواطنها ، باعت ما تبقى من الخبز لتلملم مطالب ملبسها و مغسلها ، كابدت عناء المسافات ، لا تحاصرها المسافة و لا تطوّقها ، رأفة بالسن ، غالبت دق الأبواب ، نُهرت، طُردت ، شٌتمت ، انصرفت في هدوء و سكينة ، لها صمت المُوكلين أمرهم لله،هداها الله السبيل ، تصبر على الأذية ، لا تأبه ، عرفت حكمة سؤالها عن خبز يرمى ، عن جوع في بلاد القمح ، تنهر لكنها تملك قلبا يسع الناهرين و الشاتمين و العابثين بالإحساس ، أدركت أنها تسبح في بحر غير مرئي ، تلتقي بفضاء بصيرتها مع المجهول ليلتـحم الدعـاء بالشـكوى ، قـنــعـت بمصيرها ، قدر خلقه الله ، تكون فيه جامعة الرغيف و الخـبز المرمـى ، خشيت صعود السلالم فدق الأبواب يجلب خدش الضمير ، توقعت دائما فاتح الباب المطل ، إن كان بهي طلعة أو مثله مثل السوء ، للشقق أسرارها كما البيوت ، أدركت حقيقتها مد امتهنت الحرفة ، للبيوت حاكياها ، شطحاتها ، ألغامها ، خياناتها وراء الساعات الهاربة من أصحابها ، مواعيد غرام ، فجور وميوعة ، شقق للقاءات حميمية ، يسكنها أيضا عبّاد وزهاد ، لصوص و صعاليك ، شقق تشبه الوطن ، فسيفساء ، تزاوج لألوان القسوة و الرحمة لقلب ابن آدم ، تحرّجت أن تفسد خلوة الساكنين ، أن تكسر زجاج صمت رهيب ، خافت فساد فرجة و استمتاع لذة مبهجة بين يدي أصحابها ، صوتها جرس جهوري ، جواز مرور ، تعويذة تطرد شبح التأويل عن كينونة ماهـيتها ، بـندائها لن تكون إلا هـي : العجوز اللاقطة للرغيف والكسيرة اليابسة ، رميت لها أكياس بلاستيكية من الشرفات ، ألفت هي وجوها ، وغابت عنها وجوه ، سارقي المواعيد تعرفهم ، تتذكر كلما طرقت بابا أو دخلت عمارة كيف فر بعضها من كلها ، تفرقت أشجانها ، تشتت عواطفها ، أنكسر خاطرها ، حملت على كتفيها حكاية ، نعـش حياتـها ، أثقلتها الغصة التي أنشفت الريق من حلقومها ، أين صخرة زيف منها ، تذكرت من باعت لأجله شبابها ، نغـّص الكلاب عيشها ، من طلبوا جني ثمار جسدها ، لكنها دفعت العمر حطبا لنار التضحية في كبرياء ، لم يضع معروفها عند الله ، هل يستحي الوطن من ذكر اسمها ؟ لم تكن لتضحي أكثر من أن تقدم زهرة العمر قربانا لوطن حرمها حق الحياة و العيش الكريم ، لم ينتبه لها أحد ، يوم سألت عنها البيوت لأن الخبز لم يعد يطلبه أحد ، كانت قد دفنت بقرب قبر ابنها ، صار الأطفال يسألون أمهاتهم عنها : لما لم تعد عجوز الخبز تأتي ، خجل الوطن كما الناس أن يحكوا للأبناء أنها أم الشهيد .